إلى جانب الصفة في القيام، يجب اثبات الرابطة السببية بين ذلك الضرر وما خلفه من اثار. وذهبت محكمة التعقيب إلى اعتبار أن :" دعوى الشاكي لحصول الضرر بداره بسبب ترفيع جاره في بناء داره المجاورة، فإن ثبوت وجود ذلك الضرر من طرف الخبير دون التنصيص في تقرير الاختبار على الرابطة السببية بين ذلك الضرر وارتفاع بناء الجار المدعى عليه، يجعل الحكم على الجار بتعويض ذلك الضرر قاصر التسبيب ومستوجبا للنقض" .كما أن الضرر يجب أن يكون محقق الوقوع لا محتملا أو متوقعا، وقد يكون مستقبلي لكن محقق الوقوع وهو ما أكدته مثلا مح. التع. في احد قراراتها " و حيث أن محل السكنى سيحرم من النور والهواء. وحيث يتضح أن ما صدر عن المعقب ضده يعتبر إضرارا بأرض الطاعن وأن المشرع لم يتحدث عن الضرر الحال أو المستقبل المهم أن قام به المعقب ضده الحق أضرارا بأرض الطاعن وبذلك توفرت أركان الدعوى طبق الاحكام الفصل 99 م ا ع"(قرار تعقيبي عدد 17526 مؤرخ في 20/10/1988 ( غير منشور). وبالتالي فإن المحكمة اخذت بالضرر الثابت دون المستقبلي وربطت مضار الجوار بإلحاق أضرار بأرض الجار بينما النظرية تهم الحاق ضرر بالاشخاص !؟
كما يوجب رفع دعوى مضار الجوارعلى المدعي اثبات أن جاره حمله ضررا يتجاوز الحد المسموح به بين الاجوار. ويعتبر اثبات الضرر غير مألوف اثبات واقعة قانونية ويقبل لذلك جميع وسائل الاثبات. ويمكن اللجوء في ذلك إلى الشهادة، وقد قبلت المحاكم الفرنسية تلك الوسيلة مثلا لاثبات الاصوات المنبعثة باستمرار عن الديكة عند الفجر حالت دون امكانية نوم المدعي ". ويبقى مما لا جدال فيه أن استخلاص ثبوت الضرر أو نفيه هو من مسائل الواقع التي تستقل بها محكمة الموضوع ما دام الدليل الذي أخذت به في حكمها مقبولا قانونا هذا من جهة. من جهة أخرى فإن استخلاص محكمة الموضوع لعلاقة سببية بين الخطأ والضرر يدخل في تقدير المحكمة، ولا تعقيب على قرارها متى كان سائغا ومعللا ومبررا بماله أصل ثابت بأوراق الملف. ويبرز اشكال بخصوص التقادم في دعوى رفع المضرة، و ظهر في ذلك رأيان:
رأي أول: اعتبر أنه من أحدث مضرة وعلم بذلك ولم ينكره ولا اعترض عليه بعد 10 اعوام من غير عذر يمنعه من القيام فيه فلا قيام له بعد هذه المدة. واعتبر الرأي الثاني عدم امكانية التمسك بالتقادم في دعاوى مضار الجوار، وإقصاء اللجوء إلى الفصل 115 م ا ع الذي نص أنه "يسقط القيام لغرم الخسارة الناشئة عن جنحة أو ما ينزل منزلتها يمضي 3 أعوام وقت حصول العلم للمعتدي عليه بالضرر وبمن تسبب فيه وعلى كل حال تسقط الدعوى المذكورة بعد انقضاء 15 سنة من وقت حصول الضرر" .فالحل الثاني قصد به ضمان حقوق الجارين و دفع الاضرار وان صبر عليها مدة طويلة، وهوما نرجحه لتمكين الأجوار من حماية قضائية ناجعة لحقوقهم.
ولقد كان المشرع مرنا في قبول الدعوى على أساس الفصلين 99 و 100 م ا ع فلم يشترط لقبولها على أساسهما اثبات الخطأ.وهذا الاعفاء يعد ضمانا لحقوق الجار المتضرر لأن هذا الشرط يصعب أحيانا اثباته أو اسناد أي خطأ على كامل للمدعى عليه إذا كان يمارس نشاطه وفق القانون ودون تقصير.وهو ما يفرق القيام على اساس نظرية مضار الجوار عن القيام على أساس المسؤولية التقصيرية التي تشترط صراحة اثبات خطأ تقصيري أو شبه تقصيري لقبول دعوى المتضرر والتي توجب التعويض عن الضرر مهما كان مقداره (طفيفا/بالغا).
وقبل التعرض للتعويض عن مضار الجوار نشير إلى أن بعض الفقهاء أثاروا مسألة أسبقة النشاط الضار للاعفاء من المسؤولية. وقد برزت اسبقية الاستغلال لتقول أن الجار الذي يستجد على المالك ليس له أن يشكو من مضار جوار هذا المالك ولو كانت غير مألوفة، لأنه هو الذي سعى إلى جواره وهو عالم بما في هذا الجوار من مضار فيكون قد ارتضى بها ضمنيا، كمن يشتري أرضا قرب مصنع وشيد عليها مصحة .
وقد أشار الفقه لسبق الاستغلال واعطى أهمية لتاريخ قيام مصدر الضرر وميز فقه القضاء الفرنسي بين الاسبقية الفردية والاسبقية الجماعية.
-أسبقية الاستغلال الفردية La Préoccupation individuelle :
تتمثل في تمسك المالك المستغل لنشاط ضار بأن الاستقرار قرب مؤسسته فيه تقبل للضرر، معفيا اياه من المسؤولية فيكون لمن سبق استقراره بمكان ما واستغلاله لنشاط ضار قد اكتسب حقا ارتفاقيا على العقار المجاور يحد من استغلال صاحبه له. على أن محكمة التعقيب الفرنسية رفضت الاعفاء بناء على الاسبقية الفردية للاستغلال في قرار مبدئي باعتبار أنه يجوز للمالك القديم أن يدعي أنه كسب لمجرد أسبقيته حقا في أن تتحمل أضراره من طرف الاجوار المستحدثين .
والفصل 99 م ا ع سكت عن الاسبقية في الاستغلال، ولم يستثني صراحة امكانية التمسك بالاسبقية لانعدام المسؤولية؟ !! بالتالي يمكن أن نتبين امكانية التمسك بهذا الدفع، خاصة وأن الجار المتضرر ضرره كان متوقعا. فهو من سعى إلى ذاك الجوار مع كامل علمه بالمضرة، وفي سلوكه ذلك قبول ضمني بها. ولاستبعاد امكانية التمسك بالاسبقية، اعتبر بعض شراح القانون بأنه عملا بالقاعدة الاصولية :" لا يمكن التمييز حيث لم يميز المشرع "فإنه لا يجب التضييق في مجال الفصـــل 99 م ا ع. إن استقرار أحد الاشخاص قرب مكان تصدر منه مضرة غير عادية، لا يعد في حد ذاته خطأ منه أو قبولا للمخاطر، إلا إذا تبين أنه لم يتخذ جميع الاحتياطات، وهو يعلم مقدار المضرة اللاحقة به لاستقراره في ذلك المكان. فالتبعة لا تنشأ بسبب الاستقرار قرب مصدر المضرة، وإنما بعدم اخذ الاحتياطات المعتادة لتفادي أو الحد من الضرر. ويبقى لمن تضرر القيام ضد من أحدث له الضرر والاسبق منه في الاستغلال و هو ما أكده فقه القضاء الفرنسي .
ولا يكون الجار مرتكبا لأي خطأ في هذه الصورة إذ لم يساهم تماما في حصول المضرة، فلا عمل بالاسبقية ولا تأثير لها إلا في تحديد الغرامات. فالاسبقية إذا ليست مبررا للاضرار غير المألوفة التي تعفي المالك من السمؤولية، إذ لا يعقل أن يفرض المالك على جاره اللاحق في التملك او الاستغلال اختيار استغلال لملكه مطابقا لاستغلاله كما لا يفرض عليه تحمل أضرار فاحشة. لكن فقه القضاء الفرنسي قبل العمل بنظرية الاسبقية في التمركز بالنسبة للمضار الناجمة عن مجاورة الطائرات واعتبر أن" : الشركة المتضررة ارتكبت خطأ لما عرضت نفسها بمحض إرادتها لذلك الضرر الذي تطلب تعويضه" .وقد انتقد الفقهاء الاخذ بالاسبقية للتفصي من المسؤولية لأن الفصل 142-2 من مجلة الطيران المدني لا يقبل إلا وسيلة واحدة من للتفصي من المسؤولية هي خطأ المتضرر. والاسبقية في التمركز يجب أن لا تعتمد كوسيلة للتفصي من المسؤولية لضرورة توحيد شروط تطبيق نظرية مضار الجوار.أما في خصوص - الاسبقية الجماعية
La préoccupation collective) فهي تفترض استقرار عدة مؤسسات تجارية وصناعية متماثلة في حي ما،و ترتب مضارا هامة للجوار. واستقرار أحد الاشخاص بقربها يفترض علمه بمقدار الضرر الذي سيلحقه منها، ويشكل ذلك قبولا منه للمخاطر، مما لا يخول حق القيام بطلب تعويض الضرر ورفع المضرة.ففي هذه الأحياء تكون معدل المضار هامة لما تؤخذ مجتمعة، لكن إذا أخذت كل مؤسسة على حدة وما تنشئه بصفة فردية قد لا تتجاوز الحد الاعتيادي لمضايقات الجوار. والحي الذي تعمم فيه هذه المضايقات تعد فيه المضرة عادية وذلك تبعا لظروف المكان . فيعفى أصحاب المؤسسات المتواجدة فيها من تبعة التعويض .
فالمالك الذي يشتري عقارا في حي صناعي، أي بجانب مؤسسات مكدرة للصحة وخطيرة ،لا يمكن قبول قيامه على أساس المسؤولية عن مضار الجوار، لانه كان عليه معرفة ما سيترتب من نتائج عند الشراء. بخلاف الشخص الذي يستقر في مدينة، فلا يمكن أن يفترض أن جاره سيكدر راحته بصفةمستمرة .لذلك من الطبيعي أن يدفع المضرة اللاحقة به نتيجة لذلك الضرر.
ولم يشر الفصل 99 و 100 م ا ع لهذا الأمر لذلك يجب عدم تقييد ميدان تطبيقهما ، ويبدو أن محكمة التعقيب قد اتخذت هذا الاتجاه في قضية تتعلق بتلويث مياه حمام ناتجة عن تسرب بنزين من خزانات محطة بنزين مجاورة. وعاب فيها صاحب المحطة على محكمة الأصل اعتماد السند المأخوذ من أسبقية الاستقرار بالمكان نظرا وأن محطة البنزين موجودة قبل إحداث الحمام .لكن محكمة التعقيب رفضت المطعن ، لأنه ثبت أن تسرب البنزين ناتج عن إهمال مالك المحطة ولم تجب عن المطعن الثاني.وهكذا تبرز نيتها بعدم اعتماد نظرية أسبقية الاستغلال كوسيلة لإعفاء المتسبب في الضرر تبرز إذا نظرية الأسبقية في الاستغلال سواء الفردية أو الجماعية كنظرية محدودة. فلا يمكن أن تؤسس حقا في تلويث الجوار، أو حقا في الأضرار بالجار أو حقا مكتسبا. إذ ليس لهذا الحق أي أساس قانوني. كمالا تعتمد هذه النظرية للاعفاء من المسؤولية على أساس تنازل مسبق عن تعويض الضرر اللاحق للجار من مضار الجوار غير عادية ، لأن كل شرط يتفق بمقتضاه المتضرر على عدم جبر الضرر يعد لاغيا ولا عمل عليه وهذا الأمر يهم النظام العام (الفصل 82 م ا ع).
هذا بالإضافة إلى أن أسبقية الاستغلال لا تنشأ أي حق ارتفاقي على العقار المجاور سواء بمنعه من الاستغلال أو من الاستعمال خاصة و أن المشرع لم يجز الإعفاء من المسؤولية إذا تم الترخيص في النشاط بصفة قانونية ( .
ونستخلص أن القيام على أساس الفصلين 99 و 100 م ا ع يخول دفع كل الأضرار وان تفاقمت ولا يشترط لقبول الدعوى إلا إثبات الضرر الغير اعتيادي والمدعي لحقه ضرر شخصي كدّر راحته وصحته دون اشتراط إثبات خطأ المدعى عليه أو نيته في الأضرار ينم عن نزعة المشرع لحمايته للاجوار ومن ذلك أيضا حرصه الشديد في ضمان صحة وراحة المجاورين بوضع شروط القيام مرنة وشديد الإطلاق في تحديد المضار القابلة للتعويض.و تبرز أهمية الفصول 99 و 100 في تكريس تلك الحماية من خلال أساس القيام وشروطه ،و الحماية تتواصل عند الحكم بالتعويض عن مضار الجوار.