الجرائم الجماعية ذات الصبغة السياسية
بقلم الأستاذة: نورة نويرة
تستمد هذه الجرائم خطورتها من تهديدها لأمن الدولة وعلى هذا الأساس درج بعض الفقهاء إلى اعتبار هذه الجرائم ذات صبغة سياسية لاستهدافها المباشر أو غير المباشر للأنظمة السياسية السائدة في دولة ما. وهو ما يفسر العقوبات المشددة المخصصة لها وتواجدها في باب خاص من المجلة الجزائية سمي بـ "الاعتداءات على أمن الدولة الداخلي" وهو الشأن للمؤامرة (فقرة 1) والتجمهر (فقرة 2) والعصابات الذي يطرح إشكالا في خصوص صبغته السياسية (فقرة 3)
فقرة 1 : المؤامرة :
لقد اهتم المشرع التونسي بالمؤامرة في المجلة الجزائية وبالتحديد في الفصول 68 و 69 و 70 المدرجة بالباب الثاني المتعلق بالاعتداءات على أمن الدولة الداخلي وقد استمد المشرع التونسي أحكام هذه الفصول من نص الفصل 87 من القانون الجنائي الفرنسي القديم الذي تم تنقيحه بمقتضى القانون المؤرخ في 16-12-1992 ، حيث قام المشرع الفرنسي بإدخال تعديلات جوهرية على الفصلين 86 و 87 المعلقين في الأصل بالمؤامرة وفرق في الفصلين 412- 1 و 412-2 بين جريمة الاعتداء وجريمة المؤامرة وأفرد لكل منها فصلا خاصا إلا أنه يمكن القول أن محتواهما مشابه للنص التونسي لكن يكمن الاختلاف في العقاب فقط.
ويعد تجريم المؤامرة من قبل المشرع التونسي استثناء للمبدأ السائد في القانون الجزائي الذي ينص على أنه "لا يعاقب على مجرد التفكير والنوايا الإجرامية التي لم تظهر في شكل مادي" وهو ما يفسر خطورة هاته الجرائم وإيمان المشرع بضرورة زجرها بصرامة ، فمجرد العزم والتقارر يعد كافيا لقيام جريمة التآمر على أمن الدولة
لذا يتجه قبل بيان الأركان القانونية لهاته الجريمة (ب) تعريفها (أ) .
1)- تعريـــــف المؤامــــــــرة :
عرف المشرع التونسي المؤامرة بالفصل 69 من المجلة الجزائية بأنها "تحصل بمجرد الوفاق والتقارر والعزم على الفعل بين شخصين أو أكثر" .
وهو نص مستوحى من الفصل 87 من القانون الجنائي الفرنسي القديم وتحديدا بفقرته الثانية التي جاء فيها "
« Il y a un complot dès que la résolution d’agir est concertée et arrêtée entre deux ou plusieurs personnes ».
وهي نفس العبارات التي ترجم بها المشرع التونسي نص الفصل 69 من العربية إلى الفرنسية، وما يلفت الانتباه في الفصل 69 هو عدم اشتراطه لأي عنصر مادي لارتكاب الجريمة في حين أن الفصل 412-1 فرنسي جديد المنقح بمقتضى قانون 16 ديسمبر 1992 أصبح يشترط ذلك ، فلقد جاء في تعريفه للمؤامرة :
« constitue un complot la résolution arrêtée entre plusieurs personnes de commettre un attentat lorsque cette résolution est concrétisé par un ou plusieurs actes … »
وهو نفس الاتجاه الذي تبناه المشرع السوري إذ عرف المؤامرة بأنها "كل اتفاق تم بين شخصين أو أكثر على ارتكاب جناية بوسائل معينة"
إذا يمكن القول أن المؤامرة هي ضرب من ضروب الاتفاق الجنائي لذلك ولفهم هذا الاتفاق لابد من معرفة موقع المؤامرة في مختلف المراحل التي تمر بها الجريمة حتى يتسنى لنا معرفة بدايتها ونهايتها .
إن المراحل التي تمر بها الجريمة ثلاث أولها المرحلة النفسية وفيها تخطر الجريمة في ذهن الفاعل فيتصورها ويفكر فيها ويعقد العزم على ارتكابها، وثانيها المرحلة التحضيرية وفيها يهيئ الفاعل الوسائل ويعد العدة لاقتراف مشروعه الإجرامي، وثالثهما المرحلة التنفيذية وفيها يبدأ الفاعل في تنفيذ مشروعه الإجرامي
والأصل أن القانون الجزائي لا يعاقب على المرحلة الأولى أي العزم على ارتكاب الجريمة نظرا لعدم خطورتها على المجتمع باعتبار إمكانية العدول من قبل المجرم في أية لحظة عن هذا المشروع الإجرامي.
لكن وفي بعض الأحيان جرم المشرع مجرد العزم على الفعل وذلك لخطورة الفعلة الإجرامية .
إذا لتعريف المؤامرة يمكن الاعتماد على ثلاثة أركان أولها النية وهو التفكير الباطني ، ثانيها النص القانوني الزاجر وثالثها العزم أي إبراز هذه النية وإفشاؤها للغير وقبول هذا الغير لها سواء كان فردا أو جماعة والتقارر على ذلك أي الاتفاق على القيام بفعل معين واضح من ضبط الوسائل والآليات ولا لزوم لأن يحصل شروع في الأعمال التحضيرية وإن حصل شروع في عمل تحضيري فإن هذا العمل يعد ظرف تشديد وبه تزداد العقوبة صرامة ولذا قيل أن المؤامرة قد تكون مجردة أو موصوفة وهو ما نظمه المشرع التونسي بالفصل 68 من المجلة الجزائية
أ- المؤامرة الموصوفة :
لقد تبنى المشرع الفرنسي هذه التفرقة بين المؤامرة البسيطة والموصوفة وقد اعتبر المشرع التونسي أن العزم والتقارر على الفعل بين شخصين أو أكثر على معنى الفصل 69 يعتبران من قبل المؤامرة الموصوفة إذا وقع شفعهما بعمل تحضيري لذلك فإن المؤامرة الموصوفة ليست سوى مؤامرة لحقها عمل تحضيري وهي تمثل خطورة أكبر وإقداما أوضح لدى المجرم على اقتراف ما عزم وتقارر عليه مع من تآمر معه .
ولئن تم الاتفاق بين معظم شراح القانون الفرنسي حول مفهوم المؤامرة الموصوفة فإن الأمر لم يكن سهلا بالنسبة لتحديد معنى الفعل التحضيري خاصة وأن ذلك الأمر يمثل في عديد الأحيان شروعا في التنفيذ وبالتالي يخرج عن معنى العزم والتقارر المذكورين بالفصل 412-1 من القانون الجنائي الفرنسي والفصل 69 من المجلة الجزائية التونسية .
وفي هذه الصدد جاء فقه القضاء الفرنسي معتبرا أن الكتابات والخطابات لا تكون الحمل التحضيري المقصود ، إذ يجب أن يكون الفعل المقترف يهدف إلى تحضير وتهيئة التنفيذ ، أما إذا كان يهدف مباشرة للتنفيذ فإننا نكون بصدد محاولة اعتداء ولا بصدد مؤامرة موصوفة . ومهما يكن من أمر فإن المسألة لا يمكن معالجتها بصفة نظرية بحتة لذلك فإن وقائع كل قضية على حدة تعطي للقاضي حرية واسعة في تقدير الفعل ومدى اعتباره عملا تحضيريا لا يتعدى مرحلة المؤامرة أو عملا تحضيريا مهيئا للتنفيذ ، فتوزيع سلاح ناري بعد تجميعه يعتبر من قبيل أعمال التنفيذ في حين أن خزنه بكميات هائلة داخل مخازن معدة للغرض يعد من قبيل العمل التحضيري الذي يبقى الفعل في حدود المؤامرة الموصوفة .
إلا أن فقه القضاء التونسي لم يجاري هذا النسق المتبع من قبل القضاء الفرنسي ذلك أنه يعتبر في إحدى قراراته الصادرة في أوت 1977 :
"... إن ما تلوح به الخطب السياسية الحماسية من تهديد ووعيد وما يقع التعبير عنه بواسطة الصحافة والمطبوعات والمنشورات التي وإن شكلت في بعض الحالات جرائم منصوص عليها بقانون الصحافة ولا يعتد بها كعنصر من عناصر القوة أو عمل مادي من أعمال القوة أيضا وقد تعتبر من الأعمال التحضيرية التابعة لجريمة التآمر فتكون ظرف تشديد أو عنصر إثبات للمؤامرة والاتفاق لكن دائما مع توفر الشرط الأساسي وهو تحديد الوسائل المعول عليها في التنفيذ من وسائل القوة بدون توفر هذا الشرط الأساسي لا تتكون جريمة المؤامرة " .
إلا أنه سرعان ما تراجع عن موقفه إذ فسرت المحكمة العسكرية الأعمال المرتكبة من قبل بعض المتطرفين بالاعتماد على الغايات التي كانوا ينوون ارتكابها، فقد جاء بإحدى حيثيات الحكم عدد 76111 الصادر عن المحكمة العسكرية الدائمة بتاريخ 30 أوت 1992 ما يلي " وحيث أنه لم يرد بالفصل 72 المذكور تعريف لجريمة الاعتداء على أمن الدولة الداخلي فإنه بحكم الغايات التي يستهدفها يعتبر مرحلة لاحقة للمؤامرة تتجاوز مختلف الأفعال التي يمكن حصرها في نطاق مرحلة التحضير لإيقاعها..." .
لكن وفي نفس هذا الحكم وفي حيثية لاحقة ساير اتجاه فقه القضاء الفرنسي وحدد بعض الأفعال التي يمكن اعتبارها تابعة لمرحلة التحضير اللاحقة للمؤامرة بالرغم من خطورتها فجاء بهذه الحيثية "... وحيث أنه ولئن كان تجمع السلاح ومختلف وسائل الإعداد واستقطاب العناصر الصالحة للتنفيذ وتحضيرهم بدنيا ونفسانيا لتلك الغاية ودراسة الأماكن والمراكز الحساسة المستهدفة له وتحديد الأشخاص المعنيين به إلى غير ذلك من العناصر التي على خطورتها يمكن اعتبارها داخلة في مرحلة التحضير اللاحقة للمؤامرة ..."