لاهمية التمييز بين اعمال المرحلتين كما اسلفنا ولسكوت غالبية التشريعات عن تعريف اعمال البدء بالتنفيذ ،ولضرورة وضع معيار للتمييز بينهما فقد تصدى الفقهاء لهذه المهمة ولكنهم انقسموا الى مذهبين:
المذهب المادي:
اعتمد انصارهذا المذهب السلوك الاجرامي وما ينتجه من ضرر وما يكشف عنه من خطر معيارا لتحديد البدء بالتنفيذ. ووفقا لذلك يرون ان التنفيذ يبدأ متى بدأ الفاعل بتنفيذ الافعال المادية المكونة للجريمة وكما يتطلبها النموذج القانوني . فعندما يعرف القانون جريمة السرقة على انها اختلاس مال منقول مملوك للغير، وبما ان الاختلاس لا يتحقق الا بوضع اليد على المال المراد سرقته . فيكون وضع اليد في هذه الحالة العمل الذي يبدأ به الجاني سلوكه الاجرامي. اما في جريمة القتل فأي عمل يقوم به الجاني ويتعامل به مع المجني عليه للوصول الى النتيجة التي يتوخاها يعتبر بدء بالتنفيذ كما لو اطبق يديه على رقبة المجني عليه او كما لو اطلق النار عليه . اما اذا دخل الجاني منزل المجني عليه لغرض قتله فلا يعتبر دخول المنزل من ضمن الركن المادي لجريمة القتل . وحجتهم في ذلك ان القانون وهو يعرف جريمة القتل لم يعتبر الدخول في المنزل من اعمال البدء بالتنفيذ في الجريمة المذكورة.
بالرغم من سهولة ووضوح المعيار الذي تبناه المذهب المادي الا انه يضيق من نطاق الشروع فيوسع من دائرة الاعمال التحضيرية الغير معاقب عليها وبذلك يؤثر سلبا على الحماية للمجتمع التي هي من الاهداف الرئيسية لقانون العقوبات بسبب افلات الكثير من العقاب ممن لايجوز السكوت على اعمالهم لخطورتها. فدخول المنزل لغرض السرقة حسب اصحاب المذهب المادي لا يعتبر بدء بالتنفيذ لأن الجاني لم يضع يده على المال المراد سرقته. وبما ان مناط التجريم هو البدء بالتنفيذ فيكون دخول المنزل غير معاقب عليه مع خطورته.
نتيجة الانتقادات المذكورة وغيرها حاول اصحاب هذا الرأي التوسع في مرحلة البدء بالتنفيذ فقالوا بأن افعال المرحلة المذكورة لا تقتصر فقط على الافعال المادية او السلوك الذي به يتحقق الركن المادي للجريمة وانما اضافوا اليها ما اعتبره القانون ظرفا مشددا للجريمة . وحيث ان القانون اعتبر التسور وكسر الابواب ظرفا مشددا في جريمة السرقة فانها تدخل ضمن اعمال مرحلة التنفيذ.
ما يؤخذ على اصحاب الرأي الثاني من المذهب المادي هو انه من غير المنطقي ان تعتبر عملا معينا في الليل من ضمن مرحلة التنفيذ اما في النهار فنفس العمل يدخل ضمن مرحلة التحضير لا لسبب الا لان القانون اعتبر الليل ظرفا مشددا في جريمة السرقة .اضافة الى ان الرأي المذكور يؤدي الى التفرقة بين الجرائم فما يعتبر عملا تنفيذيا في جريمة ما لا يعتبر كذلك في جريمة اخرى . فمن تسور المنزل لغرض السرقة يعتبر قد بدأ عملا ماديا يتحقق معه الشروع في السرقة لان المشرع اعتبر التسور ظرفا مشددا. اما من تسور لغرض قتل خصمه فلا يعتبر شارعا في جريمة القتل لان القانون لا يعتبر التسور ظرفا مشددا في جريمة القتل. (3)
لذلك اتجه فريق من انصار المذهب المادي الى معيار آخر هو ( التأويل )فاذا كان بالامكان تأويل الفعل كان من افعال التحضير اما اذا لم يقبل الا تأويلا واحدا ويكشف عن نية الجاني فيعتبر من اعمال التنفيذ. والرأي الاخير لا يخلو من انتقادات فالفعل الذي لا يقبل الا تأويلا واحدا قد لا يكون موجودا فدخول المنزل كما يمكن ان يكون للسرقة يمكن ان يكون للنجدة (4).
المذهب الشخصي :
يرى انصار هذا المذهب بأن العقوبة التي يقررها القانون على الشروع لا يكون الهدف منها هو مواجهة سلوك الجاني الاجرامي لان هذا السلوك لم يحقق نتيجته ، وانما الهدف من العقوبة هو ما يكشف السلوك عنه من خطورة للجاني . فليس السلوك هو المقصود وانما باعتباره دليلا وقرينة على خطورة الجاني . حيث لا يشترط في رأيهم لتوفر الخطورة الاجرامية ارتكاب الشخص لجريمة ما وانما يكفي لتحقق الخطورة ما اذا كان هناك احتمال بأن الشخص سيرتكب جريمة مستقبلا لان محور الخطورة هو شخصية المجرم وليس الواقعة المادية . وعلى هذا تكون الخطورة الجرمية للشخص شئ والجريمة التي ينفذها باعتبارها عمل ارادي معاقب عليها قانونا شئ آخر، على ان هذا لا يعني انعدام الرابطة بينهما فوقوع الجريمة علامة على توافر الخطورة عند الجاني .
فاذا ما كشف السلوك عن هذه الخطورة اعتبر الفاعل بدأ بالتنفيذ لان الشروع عندهم السلوك الذي يؤدي مباشرة وحالا الى الجريمة. فالشروع في القتل لا يشترط فيه ان يمس الجاني جسم المجني عليه، وانما يكفي اي سلوك يؤدي الى هذا المساس. واستنادا الى ذلك فتصويب الجاني المسدس نحو المجني عليه يعتبر من اعمال التنفيذ.
ما يؤخذ على الرأي المذكور ان الخطورة الاجرامية يجب ان تكون فعلية وليست مفترضة والا اصبح القضاة امام صعوبة تكوين عقيدة لاختيار العقاب المناسب لمصدر الخطورة الاجرامية . لذلك ذهب البعض الى تقسيم الخطورة الى خطورة اجرامية تظهر بعد وقوع الفعل الاجرامي وخطورة اجرامية سابقة له. وحتى في حالة ارتكاب الفاعل لجريمة معينة لايكفي وحده لتحقق الخطورة الاجرامية بل لابد الى جانب ذلك ان تظهر دلائل تشير الى احتمال ارتكاب المجرم نفسه جرائم اخرى في المستقبل فلا يكفي الافتراض او التخمين.
اما القول بالخطورة السابقة على وقوع الجريمة وعقاب ذي الخطورة الاجرامية جزائيا وهو في هذه الحالة لم يرتكب اي فعل معاقب عليه قانونا – وهو ما يذهب اليه اصحاب الرأي مدار التقدير- هو امر يتعارض ومبدء شرعية الجرائم والعقاب . الا اذا نظرنا الى ان ذلك يكون من حق الدولة لتوفير الحماية الاجتماعية ، فللمشرع ان ينظم حالات الخطورة السابقة على ارتكاب الجريمة ولكن في حدود ضيقة ودونما خرق لمبدء الشرعية .
اخذ قضاء محكمة التمييز الفرنسية ومحكمة النقض المصرية بالمذهب الشخصي. وكذلك الحال في العراق فقد اخذ المشرع العراقي بالمذهب الشخصي حين عرف الشروع بالمادة 30 من قانون العقوبات رقم 111 بأنه ( البدء في تنفيذ فعل بقصد ارتكاب جناية او جنحة ) ولم يشترط ان يأتي الجاني بعض الاعمال المكونة للركن المادي حتى يتحقق الشروع . وانما يكفي ان يقوم الجاني بفعل يكشف عن قصده في ارتكاب الجريمة .
اما محكمة تمييز العراق بدأت تميل للاخذ بالمذهب الشخصي فقد قضت (بأن قطع الاسلاك الشائكة بقصد سرقة العتاد الموجود في المخزن يحقق الشروع في السرقة بالرغم من انهم لم يتمكنوا من كسر قفل باب المخزن لمداهمة الحراس لهم وقتل احدهم ).
على ان تعيين الضابط لتحديد البدء في التنفيذ لا تقتصر اهميته على الشروع التام او الجريمة الخائبة ، وانما يتعداه ليشمل الافعال التي يقوم بها الجاني ومع ذلك يستحيل معها تحقيق النتيجة مهما بذل من جهد في سبيل تحقيقها والمقصود هنا الجريمة المستحيلة وان استحالة التنفيذ فيها تبدأ في الوقت الذي بدأ فيه الجاني بالركن المادي المكون للجريمة فماهي هذه الجريمة ؟
الجريمة المستحيلة :
هي الجريمة التي يُمتنع تحققها مهما بذل الجاني من جهد في سبيل ذلك. كما لو اطلق احدهم النار على خصمه النائم على السرير فتبين انه فارق الحياة قبل اطلاق النار عليه او من كسر خزانة النقود فوجدها خالية.
برزت فكرة الجريمة المستحيلة لاول مرة في فرنسا عندما اراد شخص يدعى laurant ان يقتل اباه فاعد لذلك بندقية جاهزة ومحشوة بالرصاص واسندها على الجدار في الوقت الذي كان فيه ابوه خارج المنزل ،وعند عودة الاب الى المنزل رأى البندقية فراوده الشك حول نية ابنه تناول البندقية وافرغها من العتاد واعادها الى مكانها . احس الابن بعودة الاب اخذ البندقية وصوبها نحوه وضغط على الزناد لكن الرصاص لم ينطلق . راجع الاب لاقامة الدعوى لدى محكمة agent فقضت له وادانت ابنه بالشروع في القتل ، وعندها طرحت المسألة للبحث.
اعتبر الفقيه الالماني فويرباخ عام 1808الجريمة المستحيلة هي التي يستحيل تنفيذها وأرجع سبب استحالة التنفيذ اما الى انعدام المحل كمن اطلق النار على شخص ميت. او الى عدم فاعلية الوسيلة المستخدمة في تنفيذ الجريمة كما لواستخدم الفاعل مسدسا خاليا من الرصاص.
على ان صعوبة وغموضا يعتريان الجريمة المستحيلة، حيث يختلف الفعل الذي يقوم به الجاني بأختلاف زاوية النظر اليه. فاذا نظرنا اليه من ناحية استحالة نتيجته دون الاخذ بنظر الاعتبار نفس الفعل الذي وقع فلا يعتبر جريمة وبالتالي لا يمكن اعتباره من صور الشروع التام المعاقب عليه، والسبب هو ان تحقق النتيجة في الشروع التام ممكن في ظل ظروف النشاط الاجرامي للفاعل وهو بذلك يختلف اختلافا كليا عن تحقق النتيجة في الجريمة المستحيلة حيث ان تحققها غير ممكن اصلا في ظل ظروف النشاط الذي قام به الجاني او في ظروف اخرى ومهما بذل الجاني من جهد في سبيل ذلك . اما اذا نظر اليها - الجريمة المستحيلة- من حيث الفعل الواقع بغض النظر عن النتيجة سواء اكانت ممكنة او مستحيلة ، ففي هذه الحالة تعتبر من صور الشروع التام والمعاقب عليه. لأن الشروع كما اسلفنا يبدأ حيث تبدأ الجريمة التامة ولا ينتهي حيث تنتهي ، كما ان مناط التجريم هو البدء بالتنفيذ والذي بدأه الجاني فعلا في الجريمة المستحيلة.
اضافة لذلك فان ما تقتضيه قاعدة شرعية الجرائم او قانونيتها في الفعل حتى يكون جريمة معاقبا عليه، هو ان يكون مطابقا لنموذجه القانوني. والنموذج القانوني هو صورة الفعل الذي يعتبره المشرع جريمة ويضمنها نصا قانونيا. بعبارة اخرى ان تتوافر في الواقعة الخارجية جميع الاركان والعناصر التي اشترطها المشرع في النموذج القانوني للجريمة. وهنا لابد من تحقق ركني الجريمة المادي والمعنوي في الجريمة التامة وفي الشروع. فهل تحقق ركنا الجريمة في صورة الجريمة المستحيلة.
لا يشكل الركن المعنوي معضلة فهو ذاته في الجريمة التامة وفي الشروع وبما ان الجريمة المستحيلة من صور الشروع فيكون الركن المعنوي متحقق فيها. فلابد ان يتوافر القصد الجنائي لدى الفاعل في صور الجريمة الثلاث على حد سواء، ولا فرق في ذلك بين الجريمة التامة والشروع او الجريمة المستحيلة.
الا ان الامر يختلف في الركن المادي فهو في الشروع بعض الركن المادي في الجريمة التامة. والاختلاف ينحصر في مدى او كمية الافعال المادية التي يقوم بها الجاني لتنفيذ جريمته.
فيكون السلوك الجنائي ناقصا في الشروع عنه في الجريمة التامة حيث تتحقق النتيجة في الثاني بينما تتخلف في الاول.(5)
وحتى تعتبر الواقعة الخارجية جريمة يعاقب عليها القانون يجب ان تتطابق اركانها وعناصرها مع اركان وعناصر نموذجها الذي تضمنه القانون بما في ذلك الركن المادي والمعنوي لها. ولكي تصبح الواقعة شروعا معاقبا عليها يجب ان تتطابق في عناصرها واركانها مع النموذج القانوني ايضا بأستثناء الركن المادي فلا يكتمل وانما يكفي مجرد البدء بالتنفيذ.
نتيجة الصعوبات المذكورة التي احاطت تكييف الجريمة المستحيلة فقد اختلف الفقه والتشريع والقضاء بشأنها ، لذلك سيتم البحث عنها في المجالات الثلاث.
الفقه والجريمة المستحيلة :
اختلف الفقهاء حول ما اذا كانت الجريمة المستحيلة من صور الشروع المعاقب عليه، ام ان استحالة التنفيذ تمنع المشرع من التدخل لفرض العقاب عليها وانقسموا في ذلك الى مذهبين: المذهب المادي والمذهب الشخصي وانقسم انصار كل مذهب الى طائفتين وعلى النحو التالي :
المذهب المادي:
انقسم انصار المذهب المادي الى طائفتين:
الطائفة الاولى : ويرى انصارها وعلى رأسهم الفقيه الالماني فويرباخ عدم العقاب على الجريمة المستحيلة. حيث يرى الفقيه المذكور ان لا عقوبة على الشروع ما لم تكن علاقة سببية تربط بين فعل الجاني والجريمة او نتج عن فعل الجاني خطر. فحتى يتحقق الشروع المعاقب عليه لابد ان يكون هناك اعتداء على المصلحة التي يريد القانون حمايتها او انها تعرضت للخطر لأن كل عقاب يفترض وجود ماديات الفعل وان يكون هناك اعتداء على الحق الذي يحميه القانون . وحججهم الداعمة لرأيهم هي :
1- ان الشروع لا يتحقق الا اذا بدأ الجاني بتنفيذ الفعل المادي المكون للجريمة ، وهذا غير متحقق في الجريمة المستحيلة فلا بدء بتنفيذ ماهو مستحيل سيما وان الاستحالة سواء اكانت مطلقة او نسبية ، مادية او قانونية تلازم نشاط الجاني منذ بدايته. فلا يرقى نشاط الفاعل الى مرتبة البدء بالتنفيذ وبالتالي فلا يمكن وصفها بالشروع المعاقب عليه. فمثلا لا يعتبر شارعا في جريمة القتل من يضع ملحا او سكرا في كوب خصمه لغرض قتله. لأن مادتي الملح والسكرلا تشكلان خطرا على حياة الخصم. كما ان وضع السكر او الملح في كوب الخصم لا يعتبر بدء بالتنفيذ كما اشترطه النموذج القانوني للجريمة.
وللرد على ذلك ان الجريمة المستحيلة تحتمل البدء بالتنفيذ وان كان مقدر له الخيبة وعدم تحقق النتيجة الا ان سلوك الفاعل يكشف عن ارادته ونيته في التوجه للوصول الى النتيجة التي يريدها .وبذلك يكشف فعل الفاعل العقيم عن مدى خطورة هذا الفاعل . وهذا يكفي لفرض عقاب على فعله قياسا على الشروع الذي لم تتحقق فيه النتيجة ولكن اتجهت ارادة الفاعل الى اتمام الجريمة التي توخاها الفاعل.
2- الاستحالة ينعدم معها تحقق النتيجة مهما بذل من جهد في سبيلها وبالتالي فالفعل لا يشكل خطرا ولا يترتب عليه ضررعلى المصلحة التي يحميها القانون .
وفي هذه الحجة تم التركيز على الخطر الذي يتعرض له الحق الذي يحميه القانون دون الالتفات الى خطورة الجاني التي يأخذها عادة المشرع في فرض العقوبة . وهي لاشك متحققه في الجريمة المستحيلة ويكشف عنها فعل الفاعل الذي يعتبر قرينة عليها .
3- كما ان المشرع الفرنسي لم يعتبرها من صور الشروع المعاقب عليه ولو اراد ذلك لنص عليها صراحة كما فعل بالنسبة لصور الشروع الاخرى سواء الشروع في حده الادنى (الجريمة الناقصة) او الشروع في حده الاعلى (الجريمة الخائبة). ولا يمكن الاحتجاج بأن المشرع عندما نص على الشروع التام اراد من ذلك انه يشمل النص جميع الحالات التي تخيب فيها الجريمة لاسباب لا دخل لارادة الجاني فيها بما في ذلك الجريمة المستحيلة ، لان هناك فرق بين الجريمتين. فالاختلاف واضح بين الشروع التام والجريمة المستحيلة وبالتالي فلا ينصرف قصد المشرع وهو يعاقب على الجريمة الخائبة ان يشمل العقاب الجريمة المستحيلة. حيث في الشروع التام يأتي الجاني افعالا قريبة من تمام الجريمة اي انه يتعامل مع محل الجريمة مباشرة وكما يتطلبه النموذج القانوني للجريمة وبالتالي فان هذه الافعال تعتبر بدء بالتنفيذ. اما في الجريمة المستحيلة فما يقوم به الجاني من افعال يستحيل معها اتمام الجريمة ولا ترقى الى مرتبة البدء بالتنفيذ. فلا يمكن وصفها والحالة هذه بالشروع في الجريمة ولا يمكن ادخالها دائرة العقاب.اذ لايمكن وصف من وضع ملحا في طعام غيره على انه شارعا في جريمة القتل لانه لم يبدأ فعلا في تنفيذ الركن المادي لجريمة القتل. (6)
ما يؤخذ على اصحاب هذا الرأي مغالاته التي تفضي الى عدم العقاب على الجريمة المستحيلة في جميع فروضها، مما يؤدي الى التضييق من نطاق الشروع المعاقب عليه الامر الذي ينجم عنه افلات الكثير من الحالات من العقاب رغم خطورتها.(7)
فاذا كان ليس من المصلحة معاقبة شخص وضع السكر في كوب خصمه لانه لم يتسبب في احداث خطر على حياة الخصم التي يحميها القانون. فان من المصلحة معاقبة الشخص الذي يطلق النار على عدوه فلا يصبه لبعد المسافة بينهما، ففي هذا المثال كانت حياة المجني عليه مهدده بالخطر لولا الصدفة التي جعلته ابعد من مرمى السلاح الناري بأمتار قد تكون قليلة. وليس من المنطق الا يعاقب السارق الذي مدّ يده في جيب المجني عليه فلم يجد نقودا مع ان عمل الفاعل لا يمكن السكوت عنه لما يمثله من انتهاك للحماية التي يقدمها قانون العقوبات وهي من اولويات اهدافه. وكأن اصحاب هذا الرأي يلقون باللائمة على المجني عليهما في المثالين السابقين، فلو كان الاول قريبا من الجاني لتحقق عقاب الاخير، وكذلك لو وضع المجني عليه الثاني النقود في جيبه لتحققت المصلحة في عقاب الجاني.
وهجر الفقه الحديث هذه المذهب ولم يبق من يؤيده.(
الطائفة الثانية : حاول البعض من انصار المذهب المادي نتيجة الانتقادات التي عصفت برأي الطائفة الاولى منهم ان يصلحوا ما افسدته تلك الانتقادات فعمدوا الى تأصيل الاستحالة والتمييز بين نوعين منها :
1- الاستحالة المطلقة : وتتحقق عندما يكون من المستحيل تحقق النتيجة الجنائية في ظل الظروف التي ارتكب فيها الفاعل عمله . وهي اما ان تتصل بمحل الجريمة ، فلا تتحقق النتيجة لانعدام المحل او فقدان شرط اساسي فيه كمن يطلق النار على انسان ميت او من يحاول اجهاض امرأة غير حامل. او انها تتعلق بالوسيلة المستخدمة، عندما لاتفضي تلك الوسيلة الى الهدف الذي اراده الجاني من فعلته. كمن يصوب بندقيته نحو آخر بقصد قتله فلا ينطلق الرصاص لكونها أفرغت من الرصاص دون علمه او كمن يضع مادة يعتقد انها سامة في كوب خصمه فاذا بها ليست كذلك.
ففي الاستحالة المطلقة – عند اصحاب هذا الرأي - سواء تعلقت بالمحل او بالوسيلة يمتنع تحقق الشروع وبالتالي فلا عقاب عليها. وحجتهم في ذلك ان المجني عليه لا يتعرض للخطر لان الجريمة لا يمكن وقوعها بأي حال من الاحوال لأنعدام محلها وبانعدام المحل ينتفي معه البدء بالتنفيذ الذي هو مناط التجريم . اضافة الى ذلك فان الاستحالة المذكورة ترافق الفعل منذ البدء في تنفيذه وهذا يعني تخلف ركن البدء بالتنفيذ الذي هو مناط التجريم كما يتطلبه النوذج القانوني للجريمة. وحيث لا بدء في العمل فلا شروع فيه وبالتالي لا عقاب عليه.
2- الاستحالة النسبية : وهي اما تتعلق بمحل الجريمة اذا كان الموضوع مما تتوافر كل شروط تنفيذ الجريمة الا انه موجود في غير المكان الذي يظن الجاني وجوده فيه. كمن يريد قتل غريمه معتقدا انه في فراشه فيطلق النار عليه فاذا به قد غادر المكان قبل فترة. او ان الاستحالة النسبية تتعلق بالوسيلة المستخدمة. كما لوكانت هذه الوسيلة صالحة للاستخدام وبأمكانها تحقق النتيجة الا ان جهل الجاني في استخدامها منع من تحقق النتيجة. كما لو وضع الجاني مقدارا قليلا من السم لايكفي لقتل انسان في طعام عدوه قاصدا قتله معتقدا انه يكفي لقتله.
اغرم الكثير من الفقهاء بالرأي الاخير وهو تقسيم الاستحالة الى مطلقة ونسبية، وتقرير العقوبة على الثانية دون الاولى وصادفت نجاحا وقبولا في الفقه والتشريع والقضاء. الا ان الاساس الذي بنيت عليه غير متين، اذ كيف يمكن وضع حدا فاصلا بين الاستحالة المطلقة والاستحالة النسبية. ان مثل هذا التقسيم يخالف طبيعة الاستحالة ، فلا يمكن تصور ان تكون للاستحالة درجات فهي اما ان لاتكون، واذا تحققت فلا تكون مطلقة او نسبية .
يتبين مما تقدم ان انصار المذهب المادي اعتمد الركن المادي للجريمة معيارا لتحديد الشروع الذي لا يتحقق الا اذا بدأ الجاني بتنفيذ الافعال المادية المكون للجريمة ومدى خطورتها على الحق الذي يحميه القانون كضابط للعقاب. وحيث ان ذلك لا يتحقق في الجريمة المستحيلة فلا شروع وبالتالي لا عقاب.
ا