الشروط المنشئة للجريمة
بقلم : مصطفى الشهباني
يعاقب المشرّع التونسي صلب الفصل 53 مكرر من م.أ.ش لمدة تترواح بين ثلاثة أشهر وعام وبخطية من مائة إلى ألف دينار، كل شخص قضى شهرا دون دفع ما حكم عليه بأدائه (المبحث الأول) وثبت تعمده الامتناع عن الأداء (المبحث الثاني).
المبحث الأول : قضاء شهر دون دفع ما حكم عليه بأدائه
لقيام الركن المادي لجريمة عدم دفع النفقة وجراية الطلاق، يجب توفر عنصرين إثنين، أولهما صدور فعل سلبي يتمثل في عدم الدفع، (الفقرة الأولى)، وثانيهما امتداده في الزمن (الفقرة الثانية).
الفقرة الأولى : عدم دفع المبلغ المحكوم بأدائه
إن معرفة احتساب المبلغ المحكوم بأدائه، تستوجب أولا معرفة كيفية احتساب الدين الأصلي (أ)، وثانيا معرفة احتساب فائضه القانوني (ب).
أ- احتساب الدين الأصلي
لئن كان المشرع قد حدّد بكل وضوح المعايير المعتمدة من قبل القاضي لتحديد المبلغ المستحق بعنوان نفقة أو جراية طلاق، فإنه سكت في المقابل عن تحديد التاريخ المعتبر والمعتمد لانطلاق احتساب المبلغ. لذلك سوف نحاول أن نقف عند المقصود من عبارة "دون دفع ما حكم بأدائه" سواء تعلق الأمر بالنفقة (أولا) أو بجراية الطلاق (ثانيا).
أولا : بالنسبة للنفقة
بالرغم من غموض عبارة "دون دفع ما حكم بأدائه" فإن القرارات الصادرة عن محكمة التعقيب لم تكن كثيرة، ولم توضح المنشورة منها مراد المشرع من تلك العبارة.
فقد ذهب البعض إلى اعتبار ذلك جملة المبالغ المتخلدة بذمة المحكوم عليه بالأداء، أي من تاريخ القيام من طرف الزوجة بقضية في النفقة، إلى انقضاء أجل الشهر المشترط قانونا. فلو صدر الحكم بالنفقة خلال شهر جانفي 1988 مثلا، يقضي بإلزام الزوج بالإنفاق على زوجته بحساب خمسون دينارا في الشهر بداية من تاريخ القيام المحدد في غرة نوفمبر 1987، ولم تتولى الزوجة إعلام زوجها بالحكم الإخلال شهر أفريل 1991، ففي هذه الحالة، فإن المعني بالإنفاق يكون ملزما بدفع المبلغ الممتد من بداية تاريخ القيام إلى حدود انتهاء أجل الشهر من تاريخ الإعلام. ويعلّل أصحاب هذا الرأي موقفهم، بأن جريمة عدم دفع النفقة أو جراية الطلاق هي طريقة جبر على أداء الديون. كما يتعلّل بعضهم بوجود قرار تعقيبي في هذا الاتجاه إذ ينص على أنه "تكون جريمة إهمال عيال متوفرة الأركان إذا بقي عمدا المحكوم عليه بالأداء أكثر من ثلاثة أشهر دون أن يؤدي لخصمه ما تخلد بذمته…"( ).
فما تخلد بالذمة هو الدين الذي أقره القضاء، وحدّد معينه بضبط تاريخ القيام، وهذا التوجه يبدو خطيرا نظرا لتعمّد بعض المتقاضين التنكيل بالمحكوم عليهم بالأداء وتأجيل الإعلام بالحكم لمدة تجعلهم على يقين بأن الملزم بالأداء لن يكون قادرا على إبراء ذمته، مما يترتب عليه إدانته، ويبرر لاحقا القيام بقضية في الطلاق للضرر.
كما أنه يبدو مخالفا لروح النص، فما حكم بأدائه هو صرف معين النفقة مشاهرة وبالحلول ولا تتكون الجريمة إلا من تاريخ الإعلام وبقاء المعني عمدا شهرا كاملا دون أداؤها. أما ما سبق الإعلام، فإنه يتجه اعتباره دينا مدنيا غير موجب للتتبع وإنما للاستخلاص طبق قواعد القانون المدني. ويبدو أن هذا التوجه الثاني منطقي لتجنّب الإسراف في حماية المحكوم لفائدته بالنفقة( )، خاصة وأن بعضهم أصبح يستعمل طرقا ملتوية للإيقاع بالمحكوم عليه والتشفي منه مثل الرجوع للمساكنة والاحتفاظ بالحكم مدة طويلة لما يمكن أن يطرأ.
ثانيا : بالنسبة لجراية الطلاق
يختلف الحل بالنسبة لجراية الطلاق، إذ لا يمكن احتسابها منذ تاريخ القيام بقضية في الطلاق، لأن في هذا التاريخ لازالت العلاقة الزوجية قائمة.
كما لا يمكن اعتماد تاريخ الحكم بها في حكم الطلاق، لأن المفارقة لا تستحق الجراية إلا بعد انقضاء فترة العدة ولا يمكن الجمع بين النفقة والجراية.
وهنا من الممكن أن ينشأ إشكالا آخر، فماذا لو وقعت المطالبة بجراية الطلاق كتعويض عن الضرر المادي في قضية أصلية مستقلة وأمام دائرة المدني العام بالمحكمة الابتدائية بعد صدور حكم الطلاق ؟
في هذه الحالة نميز بين صورتين :
- الصورة الأولى : إذا ما صدر الحكم بالجراية بعد انقضاء العدة، فإن الدين يصبح ثابتا منذ تاريخ التقدير، ويصبح تاريخ الحكم بالجراية هو تاريخ بداية الاحتساب.
- الصورة الثانية : إذا ما وقع التصريح بالحكم القاضي بجراية الطلاق قبل انقضاء العدة فإن التاريخ المعتمد لبداية احتساب الدين، هو تاريخ انتهاء العدة( ). فإذا ما ثبت دين النفقة أو جراية الطلاق وأصبح حالا وطولب به ولم يستجب لمطلب الأداء فإن تلدّد المدين يتسبب حتما في إجراء الفائض.
ب- الفائض القانوني :
لا جدال في كون النفقة وجراية الطلاق يعتبران من الديون المدنية، وباعتبارهما كذلك فإن السؤال المطروح يتمثل في ما يلي :
هل يمكن الحديث عن فائض قانوني في إطار دين النفقة أو جراية الطلاق ؟
بالعودة إلى الفصل 1100 من م.إ.ع نجده ينص على ما يلي : "إذا لم تضبط الأطراف نسبة الفوائض، فإن الفائض القانوني الذي يقع تطبيقه هو التالي : أولا : في المادة المدنية يساوي هذا الفائض 7%…" والملاحظ أن النص المذكور يتحدث عن الفائض القانوني في المادة المدنية والمقصود بذلك كل الديون المدنية التي يكون موضوعها أداء مقدار مالي معين، خاصة وأن عبارة النص جاءت مطلقة ويجب أن تحمل على إطلاقها. لذلك فلم يستثني المشرع التونسي لا صلب هذا النص أو صلب النص المجرّم لجنحة عدم دفع النفقة وجراية الطلاق، كل من دين النفقة أو جراية الطلاق من مبدأ سريان الفائض القانوني.
ولذلك، فإن مسألة الفائض تبقى مقبولة قانونا ولا شيء يمكن أن يحول دون ممارسة حق المطالبة به، ليكون وسيلة ضغط على المدينين والمتهمين الذين يتعمدون الخلاص بعد مضي سنوات تشفيا في الدائن المحتاج. ودون هذا الفائض القانوني تكون عملية الخلاص مصدرا للمماطلة وغير عادلة، نظرا لحالة الانكماش المالي، فمبلغ من المال يفقد قيمته بعد مدة من الزمن ولو كان وجيزا( ).
والملاحظ أن المحاكم لا تفرض هذا الفائض القانوني ولعل السبب في ذلك إحجام الدائن عن مطالبته بفائض الدين خاصة إذا كان من الفروع أو من الأصول.
ومهما كان السبب، فإن مسألة الفائض تبقى موكولة أولا وبالذات لإرادة الأطراف، فإن أحسوا بالحرج أحجموا عن الطلب ولا يمكن للقاضي أن يفرض الفائض لأنه لا يهم إلا مصلحة المتقاضي.
ولا يعتبر عدم دفع ما حكم بأدائه موجبا للتتبّع، إلا إذا تواصل فعل الامتناع وامتد على نحو شهر من تاريخ إعلام المدين بالحكم الصادر ضده.
الفقرة الثانية : الامتداد في الزمن
حتى يمكن تتبّع المحكوم ضده بالنفقة أو بجراية طلاق من أجل عدم الدفع، لا بد أن يبقى مدة من الزمن دون دفع ما حكم عليه بأدائه حسب عبارة الفصل 53 مكرر من م.أ.ش فقبل تنقيح 1981 الذي أضيف بمقتضاه الفصل 53 مكرر، كانت هذه الجريمة مدرجة في أمر 22 ماي 1926 المنقح بالأمر المؤرخ في 13 ديسمبر 1928، والمدة فيها لا تقل عن ثلاثة أشهر، ومنذ تنقيح 1981 صارت هذه المدة شهرا واحدا فقط، وحافظ تنقيح 1993 على نفس المدة دون أن يقلّص فيها. وأجل الشهر أجل معقول، باعتبار أن النفقة في حدّ ذاتها كجراية الطلاق تدفع مشاهرة، وبعبارة أخرى فإن التخلّف عن الدفع المحكوم به مرة واحدة فقط، يؤدي لإحالة المتخلف عن الأداء على أساس أحكام الفصل 53 مكرر م.أ.ش.
يبقى السؤال المطروح في هذا المجال : هو كيف يتم احتساب أجل الشهر من ناحية، (أ)، ومن ناحية أخرى ما هي الآثار المترتبة عن انقضاءه دون دفع ما حكم به (ب).
أ- احتساب أجل الشهر :
من البديهي أن يكون لأجل الشهر المشترط صلب الفصل 53 مكرر من م.أ.ش، نقطة بداية لاحتسابه (أولا)، لكن قد تطرأ بعض الأعمال التي من شأنها أن تقطع هذه المدة (ثانيا).
أولا : بداية احتساب أجل الشهر
لقد عرّف المشرّع التونسي صلب الفصل 141 من م.إ.ع الشهر عند تحديده لمقدار الأجل، "فإذا قدّر الأجل بالأسابيع أو الأشهر أو السنين اعتبر الأسبوع سبعة أيام كاملة والشهر ثلاثين يوما كاملة والسنة ثلاثمائة وخمسة وستين يوما كاملة" وهذا ما قامت بتكريسه محكمة التعقيب التونسية في العديد من قراراتها( )، حيث جاء بأحدها "إذا قدّر الأجل بالأشهر اعتبر الشهر ثلاثون يوما"( ).
ولكن لا بد من التفريق بين آجال الالتزامات، وآجال الطعن في الأحكام، بحيث أن آجال الطعن في الأحكام والقرارات القضائية إذا كانت محددة بالشهر، فإنها تحسب من اليوم الذي تصدر فيه إلى اليوم الذي يقابله في الشهر التالي. ولا مجال لتطبيق الفصل 41 من م.إ.ع الذي حدّد الشهر بثلاثين يوما، إذ أن هذا النص إنما يتعلق بنصوص الآجال التي تحسب فيها تطبيق الالتزامات ولا علاقة له بآجال الطعون في الأحكام، التي هي خاضعة لأصول المرافعات المنظمة لها لا للقواعد المقررة بالقانون المدني.
لكن الإشكال الذي بقي مطروحا هو تاريخ ابتداء العد لاحتساب هذا الأجل ؟ إن الإجابة عن هذا التساؤل، تستوجب منا التوقف عند التفرقة بين الحكم الصادر عن محكمة الناحية (1) والحكم الصادر عن المحكمة الابتدائية (2).
1- الحكم الصادر عن محكمة الناحية
يجوز أن يصدر حكم قاضي بالنفقة لفائدة الأبناء أو الزوجة أو غيرهما من المستفيدين من واجب الإنفاق، عن حاكم الناحية حسب الإجراءات العادية للتقاضي لدى محكمة الناحية. فمتى يبتدأ احتساب أجل الشهر ؟
بالعودة إلى الفصل 53 مكرر من م.أ.ش، نلاحظ أن المشرع سكت عن تحديد نقطة ابتداء عدّ أجل الشهر. وقد برّرت وزارة العدل سكوت المشرع هذا وعدم تنصيصه على شرط الأعلام القانوني، باعتباره نقطة احتساب الأجل المنصوص عليه صلب الفصل 53 مكرر بقولها "أن النص واضح في كون الجريمة لا تستكمل عناصرها إلا إذا تعمّد المحكوم عليه بالنفقة أو بالجراية البقاء مدة شهر كامل دون دفع ما عليه. والأحكام الصادرة بالنفقة أو بالجراية هي كسائر الأحكام المدنية، لا تصبح قابلة للتنفيذ إلا بعد الإعلام بها. فتعمّد عدم الخلاص في هذه الحالة لا يتصوّر إلا بعد إتمام الإجراءات القانونية التي منها الإعلام. ولهذا السبب لم يتعرّض المشرّع للإعلام ولا نرى على كل حال موجبا لذكره لكونه من الأمور البديهية"( ).
وقد أكدت محكمة التعقيب في قرار صادر عنها في الثمانينات إنه "اقتضى الفصل 53 مكرر من م.أ.ش ، إن المحكوم عليه بالنفقة إذا أعلم بالحكم ومضى شهر على ذلك فإنه يصبح مرتكب لجريمة إهمال عيال…"( ).
فهذا القرار التعقيبي اشترط صراحة أن يكون هذا الحكم قد وقع الإعلام به، وهذا الإعلام يكون بالطرق القانونية التي تضمنتها مجلة الإجراءات المدنية والخاصة بالإعلامات والاستدعاءات شكلا وآجلا وصيغا قانونية.
لذلك يمكن القول أن الأحكام الصادرة عن محكمة الناحية وككل الأحكام المدنية لهذه المحكمة، فإنها غير قابلة للتنفيذ إلا بعد الإعلام بها عن طريق عدل تنفيذ وحسب الإجراءات القانونية. والحكم الذي لم يقع الإعلام به لا يكون له أي تأثير أو أثر قانوني بالنسبة للذي صدر ضده، وهو غير قابل للتنفيذ. وعلى عكس بقية الأحكام، فإن للمعلم بحكم النفقة في نفس الوقت الحق القانوني في الطعن فيه ويصبح منذ لحظة الإعلام ملزما بالتنفيذ رغم قيامه بالطعن بالاستئناف، باعتبار أن الاستئناف لا يوقف التنفيذ.
وعموما يجوز اعتبار وأن الشهر الذي يتحدث عنه الفصل 53 مكرر، تحسب أيامه منذ اليوم الموالي لتاريخ الإعلام بالحكم القاضي بالنفقة والصادر عن محكمة الناحية.
لئن كان هذا الحل يهم الأحكام الصادرة عن محكمة الناحية، فما هو التاريخ المعتمد لبداية احتساب أجل الشهر إذا كان الحكم صادر عن دائرة الأحوال الشخصية ؟