المبحث الأول : مخاطر جريمة تبييض الأموال
قد يتراءى للبعض بأن لعملية تبييض الأموال آثار إيجابية ، خاصة في حالـة اتخاذ عمليات التبييض الصور العينية ، مثل إقامة شركات استثمار و توفير العديد من فرص العمل و المساهمة في علاج مشكلة البطالة ، و توفير قدر إضافي مـن السلـع يسمح باستقرار الأسعار المحلية ، إلا أن ذلك يمـكن الرد علـيه ببساطة ، بأن عـدم مشروعية الدخل الذي تجري عمليات تبييض الأموال عليه ، يمثل قـوة شرائية غـير ناتجة عن نشاط اقتصادي حقيقي ، مما يؤدي إلى آثار سلبية على الأسعار المحلـية ، و يساهم في حدوث ضغوط تضخمية ، تهدد مستقبل التنمية الاقتصادية و الاجتماعية.
إن بعض الإيجابيات التي تتحقق من استخدام الأموال المبيضة ، لا يمكـن أن تبرر أو تتعادل مع فداحة الآثار السلبية الناتجة عنها ، على الأقل مـن وجهة نظـر تخصيص الموارد الاقتصادية بشكل أمثل .
و يتبين لنا بأن هناك مخاطر اقتصادية و اجتماعية وسياسية لتبييض الأمـوال و سوف نقوم بعرض هذه المخاطر حسب المخطط الآتي :
المطلب الأول : المخاطر الاقتصادية
تعرضت اتفاقية فيينا لعام 1988 في مقدمتها للأضرار التي يمكـن أن تلحـق بالأسس الاقتصادية و المؤسسات التجارية و المالية، نتيجة الأرباح و الثروات الطائلة التي يدرها الاتجار غير المشروع للمخدرات ، و قياسا علـى ذلك النتـائج الوخيـمة المترتبة عن باقي مصادر الأموال المبيضة .
و من أهم المخاطر الاقتصادية لتبييض الأموال :
1)انخفاض الدخل القومي :
تعريف(1) : الدخل القومي لبلد ما هـو مجموع العوائد التي يحصـل عليهـا أصحاب عناصر الإنتاج من المواطنين، مقابل استخدام هذه العناصر في إنتاج السلع و الخدمات سواء داخل البلد أو خارجه ، خلال فترة معينة من الزمن، وتكون عادة خلال سنة .
أما الناتج القومي(2) فهو مجموع السلع و الخدمات النهائية التي أنتجت باستخدام عناصر الإنتاج الوطنية خلال فترة معينة من الزمن ، و تكون عادة خلال سنة .
و تؤدي عملية التبييض إلى هروب الأموال إلى خارج الدولة و خسارة الإنتاج لأحد أهم عناصره، و هو الرأسمال ، مما يعيق إنتاج السلـع و الخدمـات ، فينعكس بشكل سلبي على الدخل القومي بالانخفاض .
و قد أشارت بعض الدراسات التي أجريت عن المداخيل غـير المشروعـة فـي الولايات المتحدة الأمريكية إلى أن وجود هـذه المداخيل يعتبر مسؤولا عـن انخفاض الإنتاجية في الاقتصاد القومي بنسبة 27 % ، و نظرا لأن القطـاع الاقتصادي غـير الرسمي ينمو عادة بمعدل أسرع من معدل نمـو اقتصاديات القطـاع الرسمي ، فـإن تقديرات الناتج القومي تكون غالبا منخفضة كثيرا عن حقيقتها، و هذا يعني مسؤوليـة المداخيل غير المشروعة و المداخيل المرتبطة بعمليات تبييض الأمـوال عـن هـذا الانخفاض .
2)انخفاض معدل الادخار المحلي(3) :
يعتبر تبييض الأموال دربا من دروب الفساد المالي و الاقتصادي ، لذلك فـإن تأثيره على انخفاض معدل الادخار ، يظهر بدرجة ملموسة في كثير من الدول النامية ، التـي يمكن وصفها بالدول الرخـوة Soft state كمـا أسمـاها الأستـاذ ميردال
( Myrdal ) ، التي تشيـع فيـها الرشاوى و التهرب الضريبي و انخفاض كفـاءة الأجهزة الإدارية و فسادها ، و قد أوضح هذا الخبير الاقتصادي بصفة عامة أن الفساد يؤثر سلبيا على معدلات الادخار بشكل ملحوظ ، و أعرب عـن أسفه لتجاهـل كتب
و مقالات التنمية و التخلف الاقتصادي لهذا العنصر الهام .
ثم إن انخفاض معدل الادخار ينتج عن عمليات تبييض الأموال ، بسبب هروب الرأسمال إلى الخارج ، عندما تقترن به التحويلات النقدية المصرفية بيـن البنـوك ، المحلية منها و الخارجية ، و في مثل هذه الحالة تعجز المدخرات المحلية عن الوفـاء باحتياجات الاستثمار ، و يتسع نطاق الفجوة التمويلية ، حيث يتم إيداع المدخرات فـي البنوك الخارجية دون أن توجه نحو قنوات الاستثمار داخل البلاد .
و في حالة اللجوء إلى تبييض الأموال عن طريق شراء الذهب و التحف الفنيـة و بعض السلع ، تتجه الأموال إلى طريق الاستهلاك ، و من ثم يقل القدر الموجه إلـى الادخار المحلي ، و يعني هذا أن هناك علاقة عكسية بين تبييض الأموال و الادخـار المحلي ، و في الغالب تلجأ الدول في هذه الحالة إلى تعويض النقص عـن احتياجـات الاستثمار الإجمالي ، من خلال تدفق المـوارد الأجنبية حتى تغدوا مشكلة المديونيـة الخارجية عبئا ثقيلا على كاهل الاقتصاد القومي .
3)ارتفاع معدل التضخم :
لا تخلو عمليات تبييض الأموال من تدفق نقدي إلى تيار الاستهلاك، سواء فـي حالة التبييض عبر البنوك أو القنوات المصرفية أو عن طريق السلع و الذهب و غيرها و هذا يعني الضغط على المعروض السلعي من خلال القوة الشرائية لفئات يرتفع لديها الميل الحدي للاستهلاك ، و ذات نمط استهلاكي يوصف بعـدم الرشد أو العشوائية ، و لا تقيم وزنا للمنفعة الحدية للنقود .
و بذلك تساعد عملية تبييض الأموال في زيادة المستوى العام للأسعار أو حدوث تضخم من جانب الطلب الكلي في المجتمع ، مصحوبا بتدهور القوة الشرائية للنقـود.
و نظرا لان عملية تبييض الأموال و ما يرتبط بها من حركة الأمـوال عـبر البنوك المتعددة ، و هي على مستوى العالم ، فإنها تساهم بشكل ملحوظ في التوسع في السيولة الدولية ، و من ثم يمكن أن تؤدي إلى حدوث ضغوط تضخمية .
4) تدهور قيمة العملة الوطنية(1):
تؤثر عملية تبييض الأموال تأثيرا سلبيـا على قيمة العملة الوطنية ، نظـرا للارتباط الوثيق بين هذه العملية و تهريب الأموال إلى الخارج ، و ما يعنيه ذلك من زيادة الطلب على العملات الأجنبية ، التي يتم تحويل الأموال المهربة إليها ، بقصـد الإيداع في الخارج بالبنوك ، أو بغرض الاستثمار في الخارج ، و لاشك بأن النتيجة الحتمية لذلك هي انخفاض قيمة العملة الوطنية مقابل العملات الأجنبية ، أي أن عملية تبييض الأموال تساهم في تدهور قيمة العملة الوطنية ، مما يوجب التصدي لها حماية لهذه العملة ، و لعل التعديل الأخير لقانون العقوبات الذي جرم تبييض الأموال بموجب القانون 04-15 كفيل بضمان الحد الأدنى لاجتناب تدهور قيمة العملة الوطنية (2) .
5) تشويه المنافسة :
تؤدي عملية تبييض الأموال إلى تشويه المنافسة داخل القطاع المالي ، و تبقـي مقتصرة بصورة مصطنعة على نشاط بعض المؤسسات المالية الضعيفة ، التـي تتأثر بإغراءات المبيضين و المنظمات المافياوية ، مما يؤدي إلى تحويل هذه المؤسسات إلى محل لتبييض الأمـوال ، و تقـوم بمنافسة المؤسسات المـالية الأخرى بطريقة غير مشروعة .
6) إفساد مناخ الاستثمار(3):
لا يهتم مبيضو الأموال بالجدوى الاقتصادية لأي استثمار يقدمون عليه، باعتبار أن اهتمامهم ينصب على إيجاد الغطاء عبر عمليات التوظيف ، التي تسمـح بشرعنة هذه الأموال ، الأمر الذي يفسد مناخ الاستثمار ، ذلك أن إدخال المال غير المشروع في الدورة المالية ، يؤدي حكما إلى إخفاء مصدر هذه الأموال و شرعنتها ، كما يضخ كميات كبيرة من النقود في الدورة النقديـة و المـالية ، بصـورة عشوائية و غيـر مدروسة.
7) تشويه صورة الأسواق المالية :
إن الأموال غير المشروعة التي يجري تبييضها من خلال المصارف و غيرها من المؤسسات المالية ، تمثل عائقا أمام تنفيذ السياسات الرامية إلى تحرير الأسـواق المالية ، من أجل اجتذاب الاستثمارات المشروعـة، و بالتالي تشـوه صـورة تلك الأسواق(1).
أثر غسيل الأموال على نمط الاستهلاك :
إن هذه الأموال لا تنتج عن جهد إنتاجي أي أن مكتسبي الدخل لم يتعبوا فـي الحصول عليها ، و بالتالي لا يحرصوا عليها و ينعدم ترشيد الاستهلاك و يتم الإنفاق بالتبذير(2).
المطلب الثاني : المخاطر الاجتماعية
إن تبييض الأموال يساعد على زيادة معدل الجريمة المنظمة و غير المنظمة، و يرى البعض أن تضخم الثروات و المداخيل غير المشروعة و النجاح في إخفائهـا وإضفاء المشروعية عليها ، يجعل أصحاب هـذه الثروات مصـدر قـوة و سطـوة و سيطرة على النظام السياسي و الإعلامي و القضائي ، و إلى احتمالات فرض قوتهم على المجتمع كله ( مقطع من مقال بجريدة الأهرام بتاريخ 18/12/1995 )(3) .
و تؤثر عملية تبييض الأمـوال على المجتمع ، مـن ناحية ارتباطـها بالجرائـم السياسية، فهي تمثل نوعا من الآمان بالنسبة للحاصلين على أموال غير مشروعـة مثل الدخول الناتجة عن تجارة المخدرات ، و الناتجة عن تهريب الأمـوال و التهرب الضريبي و تقاضي الرشوة و السرقات و الاختلاسات و النصب و الاحتيال و تزييف العملات الوطنية و الأجنبية ، و كذلك المداخيل الناتجة عن الفساد الإداري و الفسـاد السياسي و تجارة الرقيق الأبيض ...الخ
ثم إن تبييض الأموال يؤدي على حدوث اضطرابات اجتماعية خطيرة و منـها :
1)اتساع الهوة بين العرض و الطلب في سوق العمل :
إن هروب الأموال مـن داخل البلاد إلى خارجـها عـبر القنوات المصرفـية و غيرها يؤدي على نقل جزء كبير من الدخل القومي إلى الدول الأخرى ، و من ثـم تعجز الدول التي هرب منها الرأسمال ، عن الإنفاق على الاستثمارات اللازمة لتوفير فرص العمل للمواطنين ، و من ثم تواجه خطر البطالة في ظل الزيادة السنوية فـي أعداد الخريجين من المدارس و الجامعات ، فضلا على الباحثين عن العمل من غـير المتعلمين ، مما يؤدي إلى تفاقم مشكلة البطالة .
لذلك لا يمكن الفصل بين عمليات تبييض الأمـوال و معدلات البطالـة سوءا في الدول المتقدمة أو في الدول النامية ، إذ أن ظاهرة البطالة ليست مقتصرة على البلدان المتخلفة ، بل تشمل أيضا البلدان المتقدمة ، و إن اختلفت أنواع و أسباب البطالة بين هاتين المجموعتين من البلدان .
و تشير الدراسات و التقديرات الاقتصادية إلى أن خلق فرصة العمل الواحدة يحتاج إلى استثمارات كبيرة ناتجة عن تعبئة المدخرات المحلية ، و تبلـغ كثافة هـذه التكلفة حوالي 250 ألف دولار أمريكي في الولايات المتحدة الأمريكية ، و الاستثمار لكـل عامل في اليابان يبلغ ثلاثة أضعاف الاستثمار في أمريكا ، و ضعف مثيله في أوربا .
و لما كانت عمليات تبييض الأموال تؤثر سلبا على الادخار المحلي المتاح لتمويل الاستثمارات و من ثم زيادة الفجـوة التمويلية فإنها تؤثر بشكـل سلبي على المـوارد اللازمة لتوفير فرص العمل الجديدة لاستيعاب الزيادة السنوية من الباحثين و الراغبين في العمل ، و من ثم علاج مشكلة البطالة .
و تجدر الإشارة أن جانبا هاما من الأموال التي يجري تبييضها في الخارج ،إنمـا هي مداخيل غير مشروعة ناتجة عن الفساد الإداري أو الفساد السياسي ، و ما يرتبط بذلك من تسرب قـدر كبير من أموال القروض الخارجية و المنـح و التبرعـات و التسهيلات الأجنبية ، تتحملها خزانة الدولة و يتحملها الشعب كله ، في صورة ضرائب إضافية مباشرة و غير مباشرة ، و يعني ذلك عدم اتجاه الأموال المنهوبة إلى القنوات الطبيعية لإنفاقها بشكل مباشر ، فلا يتيح للحكومة التغلب عن مشكلة البطالة .
و من هنا لا يمكن القبول ببعض الآراء التي ترى أن عودة الأموال بـعد إجـراء عمليات التبييض إلى الوطن الأصلي بشكل مشروع يمكن أن تساهم في علاج مشكلة البطالة ، ذلك أن نمط الإنفاق للأموال غير المشروعة لا يمكن أن يتساوى مع نمـط الأموال المشروعة ، حيث يتصف النمط الأول بكونه في الغالب نمطا شيطانيا يتجـه إلى المضاربة في العقارات و المضاربة في الأموال و الأوراق المـالية مـن أجـل تحقيق الربح السريع ، بعكس الاستثمارات المشروعة و المنتجة التي تساهـم بشكـل فعال في خلق فرص جديدة للمواطنين ، و تخفف من حدة البطالة ،كمـا أنـه حتى في حالة اتجاه النمط الأول إلى الاستثمار ، فهـو سرعـان ما يتوقف عند تحقق الغايـة المرجوة منه في إخفاء أو تمويه المصدر غير المشروع للأموال .
و توضح الدراسات أن معدلات البطالة مرتفعة في نفس الدول التي يرتفع فيها حجم عمليات تبييض الأموال باستثناء اليابان ، و تتراوح المعدلات بين 12.6 % في فرنسا و 6.1 % في أمريكا ، أما الدول التي ينخفض فيها حجم تبييض الأمـوال فتتـراوح معدلات البطالة فيها بين 9.6 % في الدنمارك و 4.8% في النرويج(1) ، أما عندنا في الجزائر فإن نسبة البطالة تفوق 30 % من اليد العاملة حسب تقرير المجلس الوطنـي الاقتصادي و الاجتماعي ، و المؤكد أن تجريم تبييض الأمـوال مـن خلال التعديـل الأخير لقانون العقوبات كفيل بالحد من تنامي نسبة البطالة في الجزائر .