لا يشكل الركن المعنوي معضلة فهو ذاته في الجريمة التامة وفي الشروع وبما ان الجريمة المستحيلة من صور الشروع فيكون الركن المعنوي متحقق فيها. فلابد ان يتوافر القصد الجنائي لدى الفاعل في صور الجريمة الثلاث على حد سواء، ولا فرق في ذلك بين الجريمة التامة والشروع او الجريمة المستحيلة.
الا ان الامر يختلف في الركن المادي فهو في الشروع بعض الركن المادي في الجريمة التامة. والاختلاف ينحصر في مدى او كمية الافعال المادية التي يقوم بها الجاني لتنفيذ جريمته.
فيكون السلوك الجنائي ناقصا في الشروع عنه في الجريمة التامة حيث تتحقق النتيجة في الثاني بينما تتخلف في الاول.(5)
وحتى تعتبر الواقعة الخارجية جريمة يعاقب عليها القانون يجب ان تتطابق اركانها وعناصرها مع اركان وعناصر نموذجها الذي تضمنه القانون بما في ذلك الركن المادي والمعنوي لها. ولكي تصبح الواقعة شروعا معاقبا عليها يجب ان تتطابق في عناصرها واركانها مع النموذج القانوني ايضا بأستثناء الركن المادي فلا يكتمل وانما يكفي مجرد البدء بالتنفيذ.
نتيجة الصعوبات المذكورة التي احاطت تكييف الجريمة المستحيلة فقد اختلف الفقه والتشريع والقضاء بشأنها ، لذلك سيتم البحث عنها في المجالات الثلاث.
الفقه والجريمة المستحيلة :
اختلف الفقهاء حول ما اذا كانت الجريمة المستحيلة من صور الشروع المعاقب عليه، ام ان استحالة التنفيذ تمنع المشرع من التدخل لفرض العقاب عليها وانقسموا في ذلك الى مذهبين: المذهب المادي والمذهب الشخصي وانقسم انصار كل مذهب الى طائفتين وعلى النحو التالي :
المذهب المادي:
انقسم انصار المذهب المادي الى طائفتين:
الطائفة الاولى : ويرى انصارها وعلى رأسهم الفقيه الالماني فويرباخ عدم العقاب على الجريمة المستحيلة. حيث يرى الفقيه المذكور ان لا عقوبة على الشروع ما لم تكن علاقة سببية تربط بين فعل الجاني والجريمة او نتج عن فعل الجاني خطر. فحتى يتحقق الشروع المعاقب عليه لابد ان يكون هناك اعتداء على المصلحة التي يريد القانون حمايتها او انها تعرضت للخطر لأن كل عقاب يفترض وجود ماديات الفعل وان يكون هناك اعتداء على الحق الذي يحميه القانون . وحججهم الداعمة لرأيهم هي :
1- ان الشروع لا يتحقق الا اذا بدأ الجاني بتنفيذ الفعل المادي المكون للجريمة ، وهذا غير متحقق في الجريمة المستحيلة فلا بدء بتنفيذ ماهو مستحيل سيما وان الاستحالة سواء اكانت مطلقة او نسبية ، مادية او قانونية تلازم نشاط الجاني منذ بدايته. فلا يرقى نشاط الفاعل الى مرتبة البدء بالتنفيذ وبالتالي فلا يمكن وصفها بالشروع المعاقب عليه. فمثلا لا يعتبر شارعا في جريمة القتل من يضع ملحا او سكرا في كوب خصمه لغرض قتله. لأن مادتي الملح والسكرلا تشكلان خطرا على حياة الخصم. كما ان وضع السكر او الملح في كوب الخصم لا يعتبر بدء بالتنفيذ كما اشترطه النموذج القانوني للجريمة.
وللرد على ذلك ان الجريمة المستحيلة تحتمل البدء بالتنفيذ وان كان مقدر له الخيبة وعدم تحقق النتيجة الا ان سلوك الفاعل يكشف عن ارادته ونيته في التوجه للوصول الى النتيجة التي يريدها .وبذلك يكشف فعل الفاعل العقيم عن مدى خطورة هذا الفاعل . وهذا يكفي لفرض عقاب على فعله قياسا على الشروع الذي لم تتحقق فيه النتيجة ولكن اتجهت ارادة الفاعل الى اتمام الجريمة التي توخاها الفاعل.
2- الاستحالة ينعدم معها تحقق النتيجة مهما بذل من جهد في سبيلها وبالتالي فالفعل لا يشكل خطرا ولا يترتب عليه ضررعلى المصلحة التي يحميها القانون .
وفي هذه الحجة تم التركيز على الخطر الذي يتعرض له الحق الذي يحميه القانون دون الالتفات الى خطورة الجاني التي يأخذها عادة المشرع في فرض العقوبة . وهي لاشك متحققه في الجريمة المستحيلة ويكشف عنها فعل الفاعل الذي يعتبر قرينة عليها .
3- كما ان المشرع الفرنسي لم يعتبرها من صور الشروع المعاقب عليه ولو اراد ذلك لنص عليها صراحة كما فعل بالنسبة لصور الشروع الاخرى سواء الشروع في حده الادنى (الجريمة الناقصة) او الشروع في حده الاعلى (الجريمة الخائبة). ولا يمكن الاحتجاج بأن المشرع عندما نص على الشروع التام اراد من ذلك انه يشمل النص جميع الحالات التي تخيب فيها الجريمة لاسباب لا دخل لارادة الجاني فيها بما في ذلك الجريمة المستحيلة ، لان هناك فرق بين الجريمتين. فالاختلاف واضح بين الشروع التام والجريمة المستحيلة وبالتالي فلا ينصرف قصد المشرع وهو يعاقب على الجريمة الخائبة ان يشمل العقاب الجريمة المستحيلة. حيث في الشروع التام يأتي الجاني افعالا قريبة من تمام الجريمة اي انه يتعامل مع محل الجريمة مباشرة وكما يتطلبه النموذج القانوني للجريمة وبالتالي فان هذه الافعال تعتبر بدء بالتنفيذ. اما في الجريمة المستحيلة فما يقوم به الجاني من افعال يستحيل معها اتمام الجريمة ولا ترقى الى مرتبة البدء بالتنفيذ. فلا يمكن وصفها والحالة هذه بالشروع في الجريمة ولا يمكن ادخالها دائرة العقاب.اذ لايمكن وصف من وضع ملحا في طعام غيره على انه شارعا في جريمة القتل لانه لم يبدأ فعلا في تنفيذ الركن المادي لجريمة القتل. (6)
ما يؤخذ على اصحاب هذا الرأي مغالاته التي تفضي الى عدم العقاب على الجريمة المستحيلة في جميع فروضها، مما يؤدي الى التضييق من نطاق الشروع المعاقب عليه الامر الذي ينجم عنه افلات الكثير من الحالات من العقاب رغم خطورتها.(7)
فاذا كان ليس من المصلحة معاقبة شخص وضع السكر في كوب خصمه لانه لم يتسبب في احداث خطر على حياة الخصم التي يحميها القانون. فان من المصلحة معاقبة الشخص الذي يطلق النار على عدوه فلا يصبه لبعد المسافة بينهما، ففي هذا المثال كانت حياة المجني عليه مهدده بالخطر لولا الصدفة التي جعلته ابعد من مرمى السلاح الناري بأمتار قد تكون قليلة. وليس من المنطق الا يعاقب السارق الذي مدّ يده في جيب المجني عليه فلم يجد نقودا مع ان عمل الفاعل لا يمكن السكوت عنه لما يمثله من انتهاك للحماية التي يقدمها قانون العقوبات وهي من اولويات اهدافه. وكأن اصحاب هذا الرأي يلقون باللائمة على المجني عليهما في المثالين السابقين، فلو كان الاول قريبا من الجاني لتحقق عقاب الاخير، وكذلك لو وضع المجني عليه الثاني النقود في جيبه لتحققت المصلحة في عقاب الجاني.
وهجر الفقه الحديث هذه المذهب ولم يبق من يؤيده.(
الطائفة الثانية : حاول البعض من انصار المذهب المادي نتيجة الانتقادات التي عصفت برأي الطائفة الاولى منهم ان يصلحوا ما افسدته تلك الانتقادات فعمدوا الى تأصيل الاستحالة والتمييز بين نوعين منها :
1- الاستحالة المطلقة : وتتحقق عندما يكون من المستحيل تحقق النتيجة الجنائية في ظل الظروف التي ارتكب فيها الفاعل عمله . وهي اما ان تتصل بمحل الجريمة ، فلا تتحقق النتيجة لانعدام المحل او فقدان شرط اساسي فيه كمن يطلق النار على انسان ميت او من يحاول اجهاض امرأة غير حامل. او انها تتعلق بالوسيلة المستخدمة، عندما لاتفضي تلك الوسيلة الى الهدف الذي اراده الجاني من فعلته. كمن يصوب بندقيته نحو آخر بقصد قتله فلا ينطلق الرصاص لكونها أفرغت من الرصاص دون علمه او كمن يضع مادة يعتقد انها سامة في كوب خصمه فاذا بها ليست كذلك.
ففي الاستحالة المطلقة – عند اصحاب هذا الرأي - سواء تعلقت بالمحل او بالوسيلة يمتنع تحقق الشروع وبالتالي فلا عقاب عليها. وحجتهم في ذلك ان المجني عليه لا يتعرض للخطر لان الجريمة لا يمكن وقوعها بأي حال من الاحوال لأنعدام محلها وبانعدام المحل ينتفي معه البدء بالتنفيذ الذي هو مناط التجريم . اضافة الى ذلك فان الاستحالة المذكورة ترافق الفعل منذ البدء في تنفيذه وهذا يعني تخلف ركن البدء بالتنفيذ الذي هو مناط التجريم كما يتطلبه النوذج القانوني للجريمة. وحيث لا بدء في العمل فلا شروع فيه وبالتالي لا عقاب عليه.
2- الاستحالة النسبية : وهي اما تتعلق بمحل الجريمة اذا كان الموضوع مما تتوافر كل شروط تنفيذ الجريمة الا انه موجود في غير المكان الذي يظن الجاني وجوده فيه. كمن يريد قتل غريمه معتقدا انه في فراشه فيطلق النار عليه فاذا به قد غادر المكان قبل فترة. او ان الاستحالة النسبية تتعلق بالوسيلة المستخدمة. كما لوكانت هذه الوسيلة صالحة للاستخدام وبأمكانها تحقق النتيجة الا ان جهل الجاني في استخدامها منع من تحقق النتيجة. كما لو وضع الجاني مقدارا قليلا من السم لايكفي لقتل انسان في طعام عدوه قاصدا قتله معتقدا انه يكفي لقتله.