تعليق على الفصل 37 م ج التونسية الركن المعنوي للجريمة(
١)
يعتبر الركن المعنوي من أهم أركان الجريمة وذلك لارتباطه بشخصية المجرم الذي يعتبر اليوم المحور الرئيسي للسياسة الجنائية الحديثة. ولكن هذا الارتباط بين الركن المعنوي وشخصية الفاعل أثار إشكالا حول تبويب العنصر المعنوي، فهل هو ركن لازم لقيام الجريمة، أم أنه أساس للمسؤولية الجنائية، وهو خلاف له قيمة كبيرة من الناحية العملية. ويمكن القول أن المشرع التونسي قد حسم هذا الخلاف مبدئيا حين أقر في الباب الرابع من المجلة الجنائية الصادرة في 13 جويلية1913، والوارد تحت عنوان "في المسؤولية الجنائية" وفي القسم الأول منه الوارد تحت عنوان "في عدم المؤاخذة بالجرائم" وبالفصل 37 تحديدا أنه "لا يعاقب أحد إلا بفعل أرتكب قصدا، عدا الصور المقررة بوجه خاص في القانون".
فهذا الفصل إذا ورد في الباب المخصص للمسؤولية الجنائية ولكن الفقه في تونس لازال يبحث العنصر المعنوي كأحد أركان الجريمة.
ويعتبر الفصل 37 م ج تونسية تكريسا لأحد أهم مظاهر تطور القانون الجنائي باتجاه تكريس الطابع الذاتي لهذا القانون، ولقد كان إدراج هذا الفصل في المجلة الجنائية منذ صدورها في سنة 1913 تقدما كبيرا قياسا لما كان موجودا في التشريع الفرنسي إذا لم يظهر مثل هذا الفصل إلا بصدور المجلة الجنائية الفرنسية الجديدة سنة 1992، وذلك في الفصل 121 ـ 3 والذي يتضمن ذات الفكرة العامة الواردة بالفصل 37 تونسي وهي أن الأصل في الجرائم أن تكون عمدية ما لم يوجد استثناء صريح في القانون. أي باختصار "الركن المعنوي في الجريمة" ولتحليل هذه الفكرة سنتعرض في جزء أول إلى أنه لا يعاقب أحد إلا بفعل ارتكب قصدا (I) وفي جزء ثاني إلى الحالات المستثناة في القانون (II).
فهرست
[إخفاء]
* ١ I ـ لا يعاقب أحد إلا بفعل ارتكب قصدا :
* ٢ أ ـ تحديد عناصر القصد :
* ٣ فالقصد الجنائي حسب نظرية العلم هو:
* ٤ أما القصد الجنائي حسب نظرية الإرادة فهو:
* ٥ لذلك ظهرت النظرية التوفيقية
* ٦ ب ـ صور القصد الجنائي :
* ٧ II ـ الاستثناءات :
* ٨ أ ـ الجرائم غير القصدية :
* ٩ ب ـ الجرائم دون ركن معنوي :
* ١٠ مقالات ذات صلة بالموسوعة
[تحرير] I ـ لا يعاقب أحد إلا بفعل ارتكب قصدا :
تعرض المشرع في هذا الفصل إلى عبارة "القصد" دون مزيد الايضاح والتحديد، رغم أن هذه العبارة تطرح في الواقع عدة إشكاليات سواء تلك المتعلقة بتحديد عناصر القصد الجنائي(أ) أو المتعلقة بمعرفة صور القصد الجنائي(ب).
[تحرير] أ ـ تحديد عناصر القصد :
إن المشرع التونسي لم يذهب إلى تعريف القصد الجنائي في الفصل 37م ج ، خلافا لما نجده في بعض التشريعات المقارنة، وبموقفه هذا يكون قد فعل خيرا إذ لم يكن أمر تحديد عناصر القصد الجنائي محل اتفاق بين الفقهاء. حيث توجد ثلاثة نظريات في ذلك:
- الأولى تعتبر أن القصد الجنائي يبني على العلم فقط - والثانية ترى أنه ينبني على الإرادة فقط - ولكن لصعوبة القبول بأي من النظريتين دون الأخرى ظهرت نظرية ثالثة ترى أن القصد الجنائي هو علم وإرادة أي وفقت بين النظريتين السابقتين.
[تحرير] فالقصد الجنائي حسب نظرية العلم هو:
علم الفاعل بمخالفة الفعل الذي يأتيه للأخلاق والقانون أو هو معرفة الفاعل أنه يرتكب فعلا ممنوعا.
فالجريمة تكون قصدية إذا ارتكبها فاعلها وهو عالم بحقيقتها الواقعية وبعناصرها القانونية.
[تحرير] أما القصد الجنائي حسب نظرية الإرادة فهو:
إرادة الاعتداء على الحق الذي يحميه القانون ويعاقب على انتهاكه.
فالجريمة تكون قصدية عندما يوجه الفاعل ارادته إلى ارتكاب الفعل المكون للجريمة بهدف تحقيق نتيجتها الإجرامية.
* - وفي الواقع فإن كلا من النظريتين قد قدم نصف الحقيقة فقط إذ أنه من غير الممكن لقيام العنصر الجنائي الاكتفاء بأحد العنصرين دون الآخر لأن اجتماعهما معا هو الذي يوجد القصد الجنائي.
لأن العلم حالة ساكنة لا تكفي لارتكاب الجريمة أما الإرادة فهي عنصر مشترك بين جميع الجرائم القصدية وغير القصدية.
[تحرير] لذلك ظهرت النظرية التوفيقية
التي تجمع بين السابقتين وتعتبر أن القصد الجنائي هو:
علم وإرادة حيث ينصرف العلم إلى أركان الجريمة (المادي والشرعي)، بينما تتجه الإرادة إلى السلوك الذي تقوم عليه الجريمة أو النتيجة المترتبة عنها. وأمام غياب تعريف تشريعي للقصد الجنائي كانت للقضاء حرية التصرف حسب الحالة المعروضة عليه دون الالتزام بقيد تشريعي مسبق. لذلك نجد أن محكمة التعقيب تركز أحيانا على عنصر الإرادة وأحيانا أخرى على عنصر العلم مع أنها تميل إلى اعتبار أن المراد بالقصد الجنائي هو: " انصراف إرادة الجاني إلى ارتكاب الفعل مع علمه بأنه يرتكب فعلا غير جائز". (٢) فالقصد الجنائي إذا هو الإرادة الموجهة تجاه غرض محدد غير مشروع، ولكن لكي تدرك هذه الإرادة لابد أن يسبقها العلم ليكون أساسا لها.
فالعلم مرحلة أساسية لابد منها لكي تتوجه الإرادة نحو الاعتداء على حق يحميه القانون، واشتراط عنصر العلم لدى الفاعل مرتبط بغاية العقوبة فالإنسان يعاقب ليس على الفعل الذي ارتكبه فحسب، بل على النفسية الخطرة التي عكسها هذا الفعل وجودها لديه.