وبالتالي فإن النيابة العمومية التي تستعين بما تقدمه لها الشرطة تحل محل قاضي التحقيق الحالي وهي التي تقرر إحالة الملف على المجلس القضائي من عدمه على ضوء ما تتطلبه التحريات المجراة.
تلك هي الخطوط العريضة (ودون الدخول في التفاصيل) لمشروع «إصلاح» منظومة الإجراءات الجزائية الذي أعلنه الرئيس ساركوزي في شهر جانفي 2009 عند إفتتاح جلسات محكمة التعقيب حيث ألقى خطابا آثار ردود أفعال كثيرة أعلن فيه إعتزامه إدخال تغيير جذري على مستوى مرحلة التحقيق مبرزا رغبته في إعتماد صيغة القاضي المشرف على التحقيق بدلا من قاضي التحقيق مع جعل القرارات المتعلقة بالإيداع بالسجن بالنسبة لمرحلة التحقيق من مشمولات هيئة جماعية تفاديا للتجاوزات وللأخطاء التي إرتكبها أحيانا قضاة تحقيق بحكم أنهم يقررون بصورة منفردة.
وهكذا، فإن الرئيس الفرنسي والذي هو في الأصل محام أعطى الإنطباع بأنه إلتفت إلى المثال الألماني وبأنه يرى في وجود مؤسسة قاضي التحقيق مؤسسة غير مستجيبة لمقتضيات العدالة الجنائية كما يجب أن تكون في قرننا هذا حيث قال في هذا الصدد :
« Il faut une justice pénale digne de notre siècle(…), une justice pénale plus soucieuse des libertés ».
تحويل «مركز الثقل»
ذلك هو إذن ما طرحه الرئيس ساركوزي مؤخرا. ولكن ما يجب ملاحظته هو أنه مع وجود أنصار لمشروع الرئيسي الفرنسي، فإن المعارضة السياسية وجانب هام من المجتمع الحقوقي في فرنسا تحفظا بشدة على إلغاء مؤسسة قاضي التحقيق وتحويل «مركز الثقل» كما يقال إلى الثنائي «الشرطة النيابة العمومية» حتى وإن يقع إعتماد خطة القاضي المشرف على التحقيق كقاض مستقل يراقب أعمال التحقيق وكيفية إجراء التحريات وجمع الأدلة. وهنا يمكن القول أن المحافظين يتشبثون بمؤسسة قاضي التحقيق فيما يسعى «المجددون» إلى إلغاء هذه المؤسسة مدعمين توجههم بما يمثله النظام الأنقلو- سكسوني وبنجاح تجربة إلغاء مؤسسة قاضي التحقيق في ألمانيا فضلا عن التخلي عنها في بلدان أخرى كإيطاليا. كما تدخل في النقاش الجاري حاليا في فرنسا بعض أساتذة القانون الجنائي من بينهم جان براديل Jean Pradel الذي شدد في مقال نشر حديثا على أنه لا شيء يبرر فعلا إلغاء مؤسسة قاضي التحقيق وأن الأمثلة الأجنبية التي يستند إليها ما أسميناهم هنا بالمجددين غير مقنعة تمام الإقناع. وأكثر من ذلك فإن عديد الحقوقيين يبرزون عدم جدوى إصلاح منظومة الإجراءات الجزائية على نحو يجعل التحقيق في المادة الجزائية بيد النيابة العمومية طالما أن النيابة العمومية غير مستقلة عن السلطة التنفيذية وبالتالي عن السلطة السياسية الحاكمة، وقد سبق للمحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان أن إعتبرت أن النيابة العمومية في فرنسا لا تندرج ضمن السلطة القضائية كسلطة مستقلة. يضاف إلى ذلك أن البعض شكك في نوايا الرئيس ساركوزي معتبرين أن إلغاء قاضي التحقيق وتحويل أعمال التحقيق والتحريات إلى النيابة العمومية التي تستعين بالشرطة من شأنه أن يمكن السلطة التنفيذية من التحكم في الملفات الكبرى المتعلقة بقضايا مالية وإقتصادية.
إلا أنه ومع وجود مثل تلك أوجه النقد الصارمة، فإن المشروع المتضمن إلغاء مؤسسة قاضي التحقيق قد يجد سبيله إلى التجسيد وقد أنهت اللجنة التي شكلها كل من رئيس الجمهورية والوزير الأول الفرنسيين للغرض والمسماة بلجنة التفكير حول العدالة الجنائية والتي رأسها السيد فيليب ليجي Philippe Léger المدعي العام السابق لدى محكمة العدل للمجموعات الأوروبية عملها وقدمت تقريرها الذي إنحاز إلى فكرة إلغاء مؤسسة قاضي التحقيق. ويبدو أن المسألة تحتاج إلى سنة أو أكثر حتى يتم الحسم فيها وإن كان المشروع مرشحا لأن يقع تجسيده بما يلغي مؤسسة قاضي التحقيق.
والتساؤل الذي لابد من أن يطرح في هذا الشأن يكمن في معرفة ما مدى تأثير إلغاء مؤسسة قاضي التحقيق في فرنسا إذا ما تم فعلا على إستمرار هذه المؤسسة في البلدان التي أخذتها عن فرنسا ؟ وفيما عدا ذلك التساؤل الأساسي فإن ما حصل في ألمانيا عام 1974 وما يحصل في فرنسا اليوم بشان مؤسسة قاضي التحقيق من شأنه أن يغذي التفكير الإصلاحي المتجه إلى منظومة الإجراءات الجزائية. وفي صورة التمسك بمؤسسة قاضي التحقيق فقد يكون من الضروري إجراء مراجعة لبعض جوانب وآليات هذه المؤسسة الهامة كالإنتقال من حالة قاضي التحقيق المنفرد إلى حالة قضاء التحقيق في شكل هيئة جماعية ضمن السلطة القضائية لا سيما عندما يتعلق الأمر بإتخاذ إجراءات مؤثرة على حريات الفرد الأساسية.
توفيق بوعشبة
أستاذ جامعي تونسي والمحامي لدى التعقيب